فطرِ المُسافِرِ
الصنف الثاني من الذين قد حددهم الفقهاء في إجابتهم على سؤال من يباح لهم الفطر في رمضان هو المسافر
اتفق الفقهاء على أنه للمسافر أن يفطر في سفره، وقد ورد هذا الرأي في كل كتب الفقهاء تقريبًا ونقل هذا الإجماع:
قال ابنُ قدامة في (المغني من مستودعات الفقه الحنبلي 3/ 116): “للمُسافِرِ أن يُفطِرَ في رمضانَ وغَيرِه, بدَلالةِ الكتابِ والسنَّةِ والإجماعِ”
قال الإمام النووي في (روضة الطالبين 2/369): “فالمرَضُ والسَّفَرُ مُبيحانِ بالنَّصِّ والإجماعِ”
قَال ابنُ عبد البر في (التمهيد 9/67) : “وأجمع الفُقَهاءُ أنَّ المسافِرَ بالخيارِ؛ إن شاء صام، وإن شاء أفطَر”
استدلوا في رأيهم هذا بأدلة من القرآن ومن السنة نحو:
قول الله تعالى في سورة البقرة: “أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ … (184)”
عن أنس ابن مالك أنه قال: ” أتيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في إبلٍ كانت لي أُخِذَتْ، فوافَقْتُه وهو يأكُلُ، فدعاني إلى طعامِه، فقُلتُ: إنِّي صائِمٌ، فقال: اُدْنُ أُخبِرْك عن ذلك، إنَّ اللهَ وضَعَ عَن المُسافرِ الصَّومَ، وشَطْرَ الصَّلاةِ” (رواه الترمذي 715).
فهذا دليل واضح أنه للصائم أن يُفطر إذا كان مسافر.
حكم صوم المسافر الذي لا يلحقه بصومه مشقة
إذا كان المسافر لا يشق عليه الصيام أو كان لديه الصوم والقطر سواء، ففي حكم صيامه اختلف الفقهاء في حكمه إلى قولين:
الرأي الأول
يرى أصحاب هذا الرأي ان الصوم في تلك الحالة أفضل له ، وقال بهذا الرأي:
جمهور فقهاء المذهب الحنفي
جمهور الشافعية
جمهور المالكية
كما أن الشيخ ابن عثيمين رحمه قد مال إلى هذا الرأي في (مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين 19/136)، واستدل أصحاب هذا الراي بعدة ادلة من القرآن والسنة نحو:
قول الله تعالى في سورة البقر: “… وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)”
عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: ” خَرَجْنَا مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بَعْضِ أسْفَارِهِ في يَومٍ حَارٍّ حتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ علَى رَأْسِهِ مِن شِدَّةِ الحَرِّ، وما فِينَا صَائِمٌ إلَّا ما كانَ مِنَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وابْنِ رَوَاحَةَ” (صحيح البخاري 1945)
يدل هذا على ان الصيام للمسافر افضل بدليل قول الله تعالى وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صام في سفره ويقول ابن حجر في (فتح الباري 4/182): “وفي الحديث دليلٌ على أنْ لا كراهِيَةَ في الصَّومِ في السَّفَرِ لِمَن قَوِيَ عليه ولم يُصِبْه منه مشقَّةٌ شديدة”
كما أن الصوم يبري الزمة من قضاء الصوم الذي يتأخر، وأن الفطر رخصة والصوم عزيمة والعزيمة أعلى منزلة من الرخصة، وأن الصوم والإفطار مع الصائمين أسهل على المكلف من الصوم والإفطار منفردًا بعد شهر رمضان.
الرأي الثاني
يرى أصحاب هذا الرأي أن الفطر أفضل للمسافر حتى لو لم يجد مشقة بسبب صومه، ثال بهذا الرأي فقهاء المذهب الحنفي ومال إليه شيخ الإسلام ابن تيمة حيث قال في (مجموع الفتاوى 336/22): “… والصَّحيحُ أنَّ الفِطرَ أفضَلُ إلَّا لمصلحةٍ راجحةٍ…”، وبه قال ابن باز في مجموع فتاويه 237/15: “… الأفضَلُ للصَّائِمِ الفِطرُ في السَّفَرِ مطلقًا، ومن صام فلا حَرَجَ عليه…”.
استدل أصحاب هذا الرأي بدليل من السنة بحديث جابر بن عبد الله قال: “كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في سَفَرٍ، فَرَأَى زِحَامًا ورَجُلًا قدْ ظُلِّلَ عليه، فَقالَ: ما هذا؟ فَقالوا: صَائِمٌ، فَقالَ: ليسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ في السَّفَرِ” (صحيح البخاري 1946)
فهذا دليل على أن الفطر للمسافر ليس من البر، ومن هنا أخذ أصحاب هذا الراي موقفه.
حكم صوم المسافر الذي يلحقه بصومه مشقة
اتفق جمهور الفقهاء الأربع على أنه إذا كان الصوم فيه مشقة للمسافر فالأفضل في هذه الحالة فالفطر أفضل له، لأن تكبد المشقة مع وجود الرخصة كأنه عدول عن رحمة الله عز وجل ورخصه كما قال ابن عثيمين في (الشرح الممتع 6/344).
مدة الإقامة التي يفطر فيها الصائم المسافر
اتفق الفقهاء (المالكية والشافعية ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل، وأقوال الصحابة) على انه إذا نوى المسافر أن يقيم أكثر من ثلاث أيام فيجب عليه الصوم، ولا يٌفطر إذا كان سيعاود سفره في أقل من هذه المدة.
استدل الفقهاء برأيهم هذا بحديث عن أبي العلاج بن أبي الحضرمي أنه النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يُقيمُ المُهاجِرُ بمكَّةَ بعد قضاءِ نُسُكِه ثلاثًا” (صحيح البخاري 3933)
هذا الحديث ورد بسبب هو أن المهاجرين قبل فتح مكة كان محم عليهم الإقامة فيها فكانوا لا يدخلونها للبقاء على حكم هجرتهم منها، فلما فتحت وأصبحت دار إسلام كان المسلمون يتحرجون من الإقامة فيها، يقضون مناسك الحج ويخرجون سريعًا، فأذن لهم الرسول بالبقاء فيها لمدة ثلاث أيام فيبقون في حكم السفر.
فدل ذلك على أن السفر ينتهي بإقامة أربعة أيام فأكثر.
حكم صوم المسافر الدائم
يرى الفقهاء المحدثون أنه يباح لسائقي القطارات والطائرات وما إلى ذلك من الأعمال التي تستوجب سفر دائم أن يفطر، فقال ابن عثيمين رحمه الله (مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين 19/141)
” يجوز له أن يُفطِرَ في هذه الحالِ، ولو كان دائمًا يسافِرُ في هذه السيارةِ؛ لأنَّه ما دام له مكانٌ يأوي إليه وأهلٌ يأوي إليهم، فهو إذا فارَقَ هذا المكانَ وأولئك الأهلَ فهو مُسافِرٌ، وعلى هذا فيجوزُ له أن يفعَلَ ما يفعَلُه المسافِرونَ؛ فإنَّ اللهَ تعالى قد أطلَقَ في الآيةِ، فقال: أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ولم يُقَيِّدْه بشيءٍ، فما أطلَقَه اللهُ تعالى ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّه يجِبُ العَمَلُ بِمُطلَقِه”
حكم صوم المسافر إذا كان بوسائل سفر مريحة
أجمع الفقهاء على انه يباح للمسافر الفطر في سفره حتى وإن كان يسافر بوسيل مريحة، وقد نقل لنا هذا الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى 15/235):
” ويجوزُ الفِطرُ للمُسافِرِ باتِّفاقِ الأمَّةِ، سواءٌ كان قادرًا على الصِّيامِ أو عاجزًا، وسواءٌ شَقَّ عليه الصَّومُ أو لم يشُقَّ؛ بحيث لو كان مسافرًا في الظِّلِّ والماءِ ومعه مَن يَخدمُه جاز له الفِطرُ والقَصرُ”